أولئك الذين خرجوا من هذا المكان لا يعرفون عنه شيئاً. حين سألوا عن مكان تواجدهم، قيل لهم: "أنتم على القمر". بعضهم تمكن من تحديد القليل من معالمه. أقله، عرفوا أنهم كانوا محتجزين في المكان الأكثر سرية في إسرائيل، أي سجن 1391.
على الرغم من الجهود التي بذلتها مؤسسات حقوق الإنسان لكشف هذا المكان، إلا أن جميعها باءت بالفشل ليستمر عذاب كثيرين. أولئك الذين خرجوا منه، يفضلون الصمت لأن الخوف يسكنهم. حتى أنهم لا يجرؤون على تذكره خشية تقليب الجراح والآلام التي تركها السجن السري هذا في نفوسهم.
وبسبب الغموض الذي يحيط بالمكان، لا أحد يعرف حتى الآن المعتقلين فيه. الشكوك حوله كثيرة، بخاصة بعدما رفضت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية طلبات عدة تقدمت بها جهات قانونية للكشف عن مكانه والسماح بزيارة المعتقلين فيه. الأكيد أن هناك سجنا سريا في إسرائيل يحمل الرقم 1391.
السجن الأسوأ
أحد الأسرى الذين خرجوا من السجن لديه ما يخبره. يقول لـ "العربي الجديد": "كنت في السجن السري ولم أعرف ذلك إلا بعد فترة طويلة". يضيف: "اعتقلت وأفرج عني وحتى الآن ما زلت أجهل سبب اعتقالي. كان تركيزي منصباً على عملي وعائلتي. لم أشارك في الانتفاضة". يلخّص معاناته بعبارة واحدة: "هو أسوأ سجن في العالم".
يذكر أن تجربته هناك كانت "صعبة وقاسية، لدرجة أنني كنت أضطر لأكل قشر البيض". استجمع الرجل الأربعيني قواه قبل البدء بسرد التفاصيل. يقول: "بتاريخ 12/04/2002، حاصرت الآليات العسكرية محيط منزلي، واقتحمه عشرات الجنود". يتابع: "نقلت في دبابة إسرائيلية من نوع ميركافا إلى معسكر حوارة القريب من مدينة نابلس، وهناك تم عزلي وقد عصّبت عيناي. منعوني من التواصل مع بقية المعتقلين. كانوا يقولون لي: أنت خطير ويجب ألا تجلس مع الناس. عذبوني بقسوة، لدرجة أن أحد الجنود وضع زجاجة ماء في فمي أثناء نومي، وكدت أختنق".
يتابع الأسير المحرر، وهو يتحسس أماكن الألم في جسده التي ما زالت ظاهرة عليه بفعل التعذيب: "أثناء نقلي من حوارة إلى عوفر، أجبرت على تغطية رأسي، وتم تقييد يديّ إلى الخلف. أما الجنود، فلم يتوقفوا عن ضربي ببنادقهم وأرجلهم". بعد أيام من الاعتقال، أبلغت بأنه تم وضعي قيد الاعتقال الإداري". يضيف "نقلت من عوفر إلى مكان لم أعرفه للتحقيق. وضعت في سيارة جيب حتى وصلت إلى السجن السري. سألت ضابطا إسرائيليا في السجن، فأجاب: أنت في مكان لا أحد في الكون يعرفه".
كيف بدا هذا المكان؟ كيف دخلت، ومن أين مررت؟ يجيب: "أذكر أنني كنت أسمع صوت الغراب في الداخل. لا أدري إن كان تحت الأرض أم فوق الأرض. كنا نصعد أدراجاً وننزل أخرى. وفي النهاية، لم نكن نستطيع تحديد أي شيء عن المكان الذي نحتجز فيه". يوضح أنه أيقن بعد كل ذلك أنه موجود في سجن سري. يضيف: "سمعت أن هناك سجنا سريا في إسرائيل. لم أكن أصدق الأمر لأنه لا توجد معلومات حوله. لكنني وجدت نفسي فيه".
الأسير المحرر الذي تعرض للاعتقال أكثر من مرة، وتنقل بين السجون الإسرائيلية، يؤكد أن السجن السري يتبع من الناحية الأمنية لمركز تحقيق الجلمة شمالي فلسطين، الذي يعدّ أحد أقسى مراكز التحقيق الإسرائيلية. يقول: "في الزنزانة، كان يسمح لي فقط بإزالة الغطاء عن وجهي. لم يكن للأمر أية أهمية، لأنها كانت مظلمة". يتابع: "كان هناك فتحات ضيقة جداً داخل الزنزانة"، مرجحاً أن يكون قد تم بناء المكان قبل النكبة.
يعود الأسير المحرر للحديث عن زنزانته. يقول: "كان هناك سرير من دون أية أغطية. في وسطها حفرة لقضاء الحاجة. في منتصف الليل، كانت تفيض علينا مياه المجاري"، لافتاً إلى أنه "في الشتاء، كانوا يشغلون مكيفات الهواء الباردة، والعكس في الصيف".
طعام
إلى الطعام، يصف الأسير المحرر الأمر بـ "المأساة". يقول: "اضطررت لأكل قشر البيض لسد جوعي. كان الغذاء عبارة عن ملعقة ونصف الملعقة من الأرز غير الناضج. والعشاء ربع بيضة مقلية". يضيف: "لم نكن نعلم في أية وقت قد يأخذونك إلى غرفة التحقيق. يمكن أن يستمر التحقيق لأكثر من 24 ساعة متواصلة". يتابع: "قبل أن يحضر الجنود، أضع كيساً قذراً في رأسي. بعدها، عرفت أن جميع المتواجدين في السجن السري هم من العسكريين والضباط وليسوا من أفراد الشرطة الإسرائيلية".
يضيف: "كان الجندي يدخل ويمسك بيدي. كنت أشعر أنني أدور في المكان نفسه. بعدها نصل إلى غرفة التحقيق. تبدو مثل زنزانة. الأبواب متشابهة. يجلس المحقق خلف طاولة صغيرة عليها بعض الأوراق ويحمل قلماً في يده، ليبدأ بتوجيه الأسئلة التي لا أساس لها من الصحة".
في نهاية التحقيق، أخبره المحققون أنه بريء، لكن أجبروه على الجلوس على آلة كشف الكذب. لكن لم يكن ذلك ممكناً لأنه مصاب بضغط الدم، ما أفشل عمل الآلة. يلفت إلى أن "الأسرى حاولوا الانتحار أكثر من مرة بسبب الظروف الصعبة".
تكهنات
سعى عدد من وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية إلى التكهن بمكان وجود السجن. قال بعضها إنها عبارة عن مبنى قديم في أعلى تلة جبلية وسط إسرائيل. من جهتها، قالت مجلة عالم السياسة الفرنسية إن السجن محاط بأشجار حراجية وجدران مرتفعة، وهناك برجا مراقبة لتأمين الحراسة العسكرية لمحيط المنطقة. أضافت أن السجن من الخارج يبدو كأي مركز شرطة بناه البريطانيون في ثلاثينيات القرن الماضي إبان انتدابهم لفلسطين. وتستغل غالبية هذه المباني كقواعد عسكرية، وتتم الإشارة إلى هذه الأبنية من خلال لافتات كتب عليها أرقام فقط".
وعام 2002، أعلنت محامية إسرائيلية تدعى تسيمل أن هناك سجناً سرياً في إسرائيل. وتوجهت إلى المحكمة لكشف تفاصيل هذا السجن، لكن محاولتها باءت بالفشل وبقي الغموض يحيط بالمكان. في المقابل، قالت جهات قانونية إسرائيلية إن نزلاء هذا السجن هم من الفلسطينيين واللبنانيين وحتى الإيرانيين الذين ألقي القبض عليهم أثناء الاحتلال العسكري لجنوب لبنان على مدار 18 عاماً.
محرقة جماعيّة
لا أحد يعرف حتى الآن عدد المعتقلين في السجن السري. إلا أن لجنة أنصار السجين في مدينة الناصرة قالت إن هناك 15 أسيراً ليسوا موجودين في السجلات الإسرائيلية، ما يرجح وجودهم في هذا السجن. وكانت صحيفة "كان" الألمانية أعلنت أن "ما يتعرض له السجناء هو محرقة جماعية لسجناء أحياء". أما صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، فكتبت أنه "ليس هناك محاكمات".